الثلاثاء، 17 فبراير 2015

نور الشريف: نصف قرن من الإبداع والتوهج!




           
بقلم- هشام لاشين
الموهبة وعشق الفن والثقافة.. ثلاث مفاتيح يمكن أن يقودوا الي فهم واعي للفنان الخالد في ذاكرة الفن السابع بل وذاكرة من أحبوه نور الشريف .. إنه صاحب مدرسة  الصدق الي حد التقمص في الأداء التمثيلي لذلك استطاع عبر ادواره التعبير عن المواطن البسيط وقضايا الوطن والمنطقة العربية بحرفية شديدة.
منذ إطلالته الأولي في شخصية كمال عبدالجواد في الجزء الثاني من ثلاثية نجيب محفوظ “قصر الشوق” عام 1967 يلفت النظر شخصية كمال ذلك الطالب الجامعي الشاب الخجول والرومانسي المثالي الذي يشهد تحولات مجتمع يرتع في العفن والنذالة والإزدواجية وتبدأ أفكاره في التحول تدريجيا.. شخصية  مسكونة بالحوار الفلسفي وتشكك مستمر في الثوابت الدينية وربما الإجتماعية ، كان وجه نور وتلقائية اداءه المعبر عن شخصية لم تتلوث بعد وتجنح للسذاجة والمثالية يكشف عن ميلاد نجم سوف يتسلل رويدا بعد ذلك في أكثر من 170 فيلم سينمائي شكلت بالفعل محطات رئيسية في تاريخ السينما المصرية بل والعربية، نذكر منها ادواره في بنت من البنات 1968/ زوجة بلا رجل/ نادية/ بئر الحرمان 1969/ المراية/ السراب 1970/ شباب في العاصفة/ ثم تشرق الشمس/ المتعة والعذاب/ زوجتي والكلب 1971/ كلمة شرف/ الحاجز/ من البيت للمدرسة 1972)، ثم فيلميه مع يوسف شاهين في الثمانينات “حدوتة مصرية” و”المصير”، وأدواره في أفلام عاطف الطيب مثل “سواق الأتوبيس”، و”دماء على الأسفلت”، و”ناجي العلي”، و”البحث عن سيد مرزوق” لداود عبد السيد، وأخيرا ”عمارة يعقوبيان” لمروان حامد ، و(بتوقيت القاهرة) المعروض حاليا
وفي كل هذه الأفلام كانت مدرسة نور في الأداء التمثيلي تزداد نضجا ورسوخا وتباينا من الطالب الفقير ضحية مجتمع وقوي قاهرة كما في (الكرنك ) او للثائر الطموح الذي يواجه كارثة عربية بحجم قضية وطننا المنكوب كما في (ناجي العلي) الذي واجه بسببه حرب طاحنة من محاولات المنع والإساءة لشخصه واجهها برياطة جأش كشفت بدورها عن جلد وتحمل إبن السيدة زينب العنيد ،وهو الفتي الساحر الجرئ والمقامر المعبر عن مرحلة الإنفتاح في (زمن حاتم زهران)  وهو الثري والشريف والطغية والنذل .. والصوفي والزنديق .. تأمله مثلا في رائعة ديستوفسكي (الأخوة كرامازوف) التي تحولت علي يد حسن الإمام (للأخوة الأعداء)  وهو يقدم شخصية (إيفان) في الرواية الأصلية الذي دخل عالم الجنون والهذيان بسبب ماديته وواقعيته المفرطة وفقدان الايمان بالله واهمية الاخلاق في المجتمع وهو يقنع شقيقه الذي يعمل كخادم لهم بأنه إذا لم يكن الله موجود فكل شيئ مباح .. وتأمل نظرات نور الشريف الجامدة القاسية والموحية المتربصة والشاردة في نفس الوقت لتكشف عن مكنونات شخصية بحجم كل هذا التعقيد لتعرف انك امام مدرسة عاتية في الأداء .

وتأمله في سائق الـأتوبيس ثم سائق التاكسي في رائعتي عاطف الطيب (سواق الأـتوبيس وليلة ساخنة) فالسائق هنا غير السائق هناك وان تشابهت الظروف والمواجهات الإجتماعية والإنسانية مع الفقر والبؤس والتغيرات الإجتماعية..في الأول يسعي حسن لإنقاذ مايمكن إنقاذه من قيم مجتمع يرذخ بالتحولات المادية في زمن الإنفتاح ومابعد حرب اكتوبر 73 انه الشهم الشامخ الجرئ في الحق.. يبدو كما لو كان يحارب طواحين الهواء مرفوعا الرأس وشجاعا حتي النهاية.. وفي الثاني هو أيضا نفس الشهم الفقير مرفوع الرأس ولكن علي نحو أكثر إنكسارا وضعفا يلائم فارق التوقيت بين منتصف السبعينات ومنتصف الثمانينات الأكثر ضراوة وتحللا .


في فيلم (أهل القمة)  مثلا مع المخرج علي بدرخان يكشف نور الشريف في شخصية زعتر النوري (لاحظ الإسم) سوءات الإنفتاح الإقتصادي ضمن طائفة الأعمال السينمائية التي عبرت عن جملة المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية في منتصف السبعينات حيث يقف المستورون من أبناء الطبقة المتوسطة علي حافة الهاوية بينما يتقدم اللصوص الكبار ويلحق بهم الصغار المشهد.. صراعا جسده نور بمهارة ليس في هذا الفيلم وحده واكنه كرره في أفلام مثل (زمن حاتم زهران الذي تصدي لإنتاجه بعدها بسنوات وأخرجه محمد النجار الذي إكتشفه نور وقدمه مثلما كان مهموما بتقديم وإكتشاف المواهب بالتوازي مع رحلته الإبداعية كممثل.. هنا أيضا وبين الفليمين نموذجين الأول لأنفتاحي ولص صغير والثاني لأنفتاحي كبير وإن كان كلاهما تكريسا للصوص نصر أكتوبر الذين أخذوا كل شيئ في طريقهم بما في ذلك دماء الشهداء وستر البسطاء فزعتر النوري هو نفسه حاتم زهران ولكن عبر زمنين وشريحتين ومستويين إجتماعيين مختلفين .. وكالعادة رصد نور الشريف الفروق والتوقيت وقدمهما بمدرسته الخاصة في الأداء الصادق ذو الطبيعة الخاصة حتي في طريقة نطق الكلمات وطبقة الصوت المعبرة عن كل شخصية .


وحين نتابعه مثلا في فيلم مثل (العار) نري مستوي أخر لشخصية كمال تاجر المخدرات المتصالح مع قناعاته والذي يواجه أشقاءه بحقيقة أبوهم قبل أن يسترسل في توريطهم معه في الصفقة الملعونة.. قاسي وحنون في نفس الوقت.. جرئ ومتهافت لكنه أيضا معجون بالجشع والإيمان!! مجموعة من المتناقضات عبر عنها نور بإقتدار وفهم واضاف لها لزمة مد قامته للأمام من وقت لأخر تعبيرا عن الضيق بلبس البدلة الذي لم يتعودها وهو ابن البلد المنحاز لعالم أبيه تاجر العطارة الشهير .


كان نور الشريف تعبيرا فعليا عن حالة ثقافية فنية تعايش الشخصيات وتدرسها وتثبر أغوارها  وكان يمنح شخصياته المكتوبة علي الورق روحا واقعية شديدة الصدق والخصوصية حين يتصدي لتمثيلها  بعد ان يصادقها ويستدي نماذجها من واقع تجاربه ومعارفه ولقاءاته في الحياة ،وكثيرا ماإلتقيته أثناء التصوير او في كواليس بعض أعماله.. كنت أري دودة مطالعة ومناقشة وثقافة تجمع بين كل الأنواع من أقصي الوجودية لأقصي الكتب الدينية والتاريخية ولذلك تنوعت أدواره مابين هذا وذاك.. وكان دسما في مناقشاته وتحليلاته وله دائما رؤية خاصة قد تختلف معها لكنك لاتملك سوي إحترامها والإعجاب بألمعيتها .



بإختصار لم يكن نور الأول فقط علي دفعته حين تخرج عام  1967 بتقدير إمتياز ولكنه ظل الأول لما يقرب من نصف قرن في الأداء من حيث كم الأعمال الجادة وإسلوب الأداء الخاص وهو مايجعله في رأيي المتواضع نجم القرن لو وضعنا في حساباتنا غزارة الإنتاج الجيد له  دون انتقاص من قيمة النجوم الكبار الأخرين من جيله او من الأجيال السابقة .
ورغم حصول نور علي عشرات الجوائز والتكريمات في حياته مثل "جائزة أحسن ممثل" عن دوره في فيلم ليله ساخنة وعلى جائزه مهرجان نيودلهى عن فيلم سواق الأتوبيس.
إلا ان مهرجان دبي السينمائي الأخير قد أحسن صنعا وهو يمنحه اهم تكريم في رأيي في نهاية الرحلة وهي جائزة “انجاز العمر” التى لاتمنح إلا لهؤلاء الكبار الذين قطعوا مشوارا من النجاح وأضاءوا حياتنا وأضافوا لها الكثير من المتعة والسعادة.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق