الخميس، 11 سبتمبر 2008

هشام لاشين يكتب عن(غياب) البحريني:

فيلم الجوائز..والشجن النبيل! علي حائط منزل قديم أكلته الرطوبة وشرب عليه الزمن تتسلل الكاميرا في نعومة وإنسيابية لتتوالي اللقطات التمهيدية التي تستعرض لنا التهالك الممزوج بطعم القدم والأصالة وشجرة صفصاف تفرد ذراعيها بدفء عبقري لتحوط المكان وتغلفه بحنو إنساني رائع.. هكذا تنزل تترات الفيلم القصير(غياب) الفائز بالعديد من الجوائز في مهرجان الريف الثاني وعلي رأسها جائزة البنوش الفضي وجوائز في التصوير والموسيقي التصويرية .. وجائزة التحكيم الخاصة .. وقبلها حصل الفيلم علي جائزة لجنة التحكيم في دورة مهرجان روتردام الاخيرة.. وينتظر جوائز أخري في مهرجانات عديدة قادمة! 10 دقائق هي عمر أحداث الفيلم البسيط لدرجة الروعة .. العميق لدرجة الألفة.. تمر كالعمر سريعة .. بطيئة في نفس الوقت ..فحين تدخل الكاميرالي المنزل القديم الذي مهدت لوجوده عبر التترات نلمح مروحة في سقف الغرفة في لقطة مكبرة قبل ان تنزل الكاميرا في زووم آوت لتقدم لنا أبطال الحكاية القصيرة المشبعة بالحكمة والبساطة .. البطل (عبد الله ملك).. رجل في منتصف العقد السادس يمد يده الي راديو قديم يشبه كل شيئ في المكان .. بل إنه يشبه أشخاصه انفسهم.. وحين يضغط علي المفتاح يتسرب صوت أم كلثوم الرائع بأغنية ( فات الميعاد) .. انها جزءاً اخر من الحكاية ( بس أنا نسيت الألام ذي مانسيت الابتسام .. ستاير النسيان .. نزلت بقالها زمان).. الرجل مشغول بقراءة صحيفة بينما كلمات الأغنية تهز شيئا ما داخل نفسه .. فستائر النسيان نزلت بدورها علي حياته بينما تجلس في الركن الاخر من الغرفة البسيطة إمرأة تصغره بسنوات قليلة (شيماء كسار) تنشغل بحياكة شيئ ما .. ربما كان غطرة او شيئ من هذا القبيل .. الصمت يلف المكان إلا من صوت أم كلثوم بينما تنصت أُذٌن الرجل لشيئ ما بإتجاه الخارج.. بعد تردد يلقي بالجريدة ويبدأ في التحرك ناحية الباب .. في طريقه إلي هناك يمر بصالة المنزل العتيق ليجد ورقة من الشجرة المتدلية فروعها داخل حوش المنزل قد ذبلت وسقطت علي الأرض .. يمسك بها ويضعها علي أحد الجوانب بجوار أوراق أخري سبق لها ان سقطت في نفس المكان .. تنويعة اخري داخل المشهد علي الزمن والتهالك والانزواء.. وحين يفتح الرجل الباب ينظر يمينًا ويسارًا فلا يجد شيئًا .. يعود ليكرر الأمر لكن لاأحد .. وحين يعود أدراجه يعلن للمرأة التي قد تكون زوجته او ربما أخته –لايهم-أنه تصور أن هناك من يطرق الباب .. بل انه لم يسمع طرقاً وهو ماتؤكد عليه المرأة لكنه ربما تمني ان يكون هناك هذا الطارق اوذلك الشخص غير المتوقع .. لذلك يترك الباب نصف مفتوحاً لعل هذا الطارق الغامض يأتي يوما ما ولايسمعانه فيدخل ..إ نها الأمنيات حين يمتد العمر ويرتحل الأبناء والاصدقاء بعيدًا ولاتبقي إلا ستائر النسيان والوحدة والقلق والتوجس والملل وإنتظار من يطرق الباب .. وحين يحدث ذلك الحوارالتنويري لاتعود الأمور كما كانت لدي المرأة(شيماء كسار) التي ينكشف لنا انها بدورها تعاني نفس الوحدة والقلق والإنتظار للمجهول القادم .. فبدورها تنهض إلي الباب لتكرر البحث والنظر في كل الإتجاهات في الخارج .. لكن لاشيئ .. وحين تعود تنتقل نظرات كلاهما بين الفينة والاخري لتتعلق بالباب .. فمن يدري .. قد يعود الغائب المجهول يوما!انهما صامتان يترقبان مايفعله بهما الزمن في استسلام واضح لايخلُ من بعض القلق والتوجس! انها البساطة الإنسانية والتعبيرية في دقائق قصيرة تكشف عن موهبة واعدة لمخرج شاب هو محمد راشد بو علي مع سيناريو كاتب مخضرم وحساس هو حسن حداد عن قصة ( الوحيد لوحده) للشاعر الكبير قاسم حداد بينما يمتزج تصوير عبد الله رشدان بإضاءته المغلفة للحالة النفسية للأبطال والمكان بصورة جيدة مع موسيقي شاعرية تؤكد الشجن والحالة العامة للاحداث ! وعلي هامش هذه الحالة الشاعرية وتلك السينما الواعدة روي لي المخرج كيف أنه صور فيلمه بأحد المنازل القديمة قبل ازالته بساعات قليلة .. فالمنزل بدوره صار الأن في ذمة التاريخ ونزلت عليه ستائر النسيان.. لكن الفيلم مثل حال أي فن جيد نبيل قد خلد هذا المنزل علي شريط السينما .. فصار الغائب الحاضر في الذاكرة انه فيلم مدهش عن الزمن .. عن العمر والغائبون والمنسيون في حياتنا.. ربما يفتح طاقة التذكر لكل المشاعر الانسانية المنسية في حياتنا .. ولذلك إستحق الجوائز.. وإستحق ان تفخر به البحرين وان تقدم كل الدعم لأبناءها الموهوبين ولصناعة يمكن ان تساهم في رفع إسمها عالياً .. قبل ان يدخل مبدعيها بدورهم في نفق النسيان والغياب !