الجمعة، 21 سبتمبر 2012

مهرجان سينمائي لعروس المتوسط بعيداً عن غبار القاهرة


القاهرة ـ 'القدس العربي' ـ من كمال القاضي: في وقت غير ملائم ووسط أجواء مشحونة بالغضب والتوتر عقد مهرجان الإسكندرية الدولي دورته الثامنة عشر، في إشارة إلى الإصرار على البقاء وتحدي كل الأزمات المحيطة بالسينما ونشاطاتها، حيث السائد الآن هو خطاب الرفض للفن والإبداع والتشكيك في سمعة المشتغلين به، وليس قضية إلهام شاهين والهجوم السافر عليها أمر بعيد عن هذا السياق.

لقد أقيم المهرجان في موعده السنوي المعتاد بضجيج أقل واحتفال لا يساوي ما كان يحدث في السنوات الماضية، ولكنه حرص على ممارسة طقوسه وكرم ما وقع الاختيار عليهم من النجوم وكتاب السيناريو المخرجين، وهذا في حد ذاته إنجازاً يحسب لجمعية كتاب ونقاد السينما المنظمة للفعاليات ورئيس المهرجان الجديد د، وليد سيف، لا سيما أن التكريم راعي التنوع في التخصص والمواهب والأعمار فشمل شيوخاً وشباباً كرأفت الميهي وخالد أبو النجا وصلاح السعدني ومحفوظ عبدالرحمن وخالد النبوي، وأيضاً أخذ في الاعتبار جيل الوسط الذي مثلته بوسي.

ومن ناحية أخرى التفت من وضع قائمة المكرمين الى الجهود النضالية لمن شاروا في الثورة ويخوضون غمار التحدي والمواجهة مع القوى الرافضة للفن، وهؤلاء يأتي على رأسهم المخرج خالد يوسف الذي لا يزال يدافع عن فنه وإبداعه بكل جسارة وجدارة غير عابيء بصيحات الخطر والكدر وهو المستهدف الرئيسي من محاولات ايقاف تيار الإبداع الحر الذي يحسبه الآخرون مجوناً وخروجاً على الأخلاق!

ملمح إضافي يجدر بالذكر والإشارة نراه يعضد البعد القومي لمهرجان الإسكندرية ويعزز فكرة التضامن مع الشعب السوري الشقيق، هذا الملمح برزت محاسنه ومعالمه في حضور السينما السورية ورموزها والحرص على تكريمهم ليقفوا جنباً إلى جنب مع إخوانهم الفنانين المصريين دون تفرقة في التميز وإعلان التفوق الفني على الملأ شهادة للتاريخ وتأكيداً للوحدة الشعبية التي لم تنفصم.

بيد أن احتفاء من نفس النوع تقريباً لاقته السينما التركية التي تم تمثيلها بستة أفلام حظيت بإعجاب الحضور ونفت مزاعم العداء بينها وبين السينما المصرية، فيما أكدت روح المنافسة الشريفة والسباق على تحقيق الأفضل للمتلقي من الجمهوريين في البلد الصديقين، وقد لوحظ بفضل التنوع الفني والاختيارات الذكية للأفلام وجود ما يسمى بالخارج عن المألوف وهو قسم خاص أظنه أنشيء حديثا لعرض الإبداعات السينمائية غير التقليدية ويهدف بالقطع إلى التجديد والتحديث في الأفكار والرؤى والخروج عن النمطية بما يضيف للذائقة الإنسانية ويثري العقل الجمعي لمحبي الفن وأنصار الحداثة.

ولعل الأهم فيما يقوم به مهرجان الإسكندرية أنه يفسح مجالا أوسع لأفلام الديجتال فقد أتاح الفرصة هذا العام لثمانية تجارب متميزة للمشاركة في المسابقة الرسمية لتأكيد وجودها وقدرتها على انتزاع الجوائز فيم نافسة هي جد صعبة، ويعد هذا متغيراً جديداً طرأ منذ سنوات قليلة، حيث كان المتاح قبل ذلك أمام الفيلم الديجتال ليس أكثر من مشاركة على الهامش خارج المسابقة الرسمية وهو ما يمكن أن نطلق عليه الحضور الشرفي، أما وأنه قد حدث التمثيل الشرعي فهذا يعني حصول سينما الديجتال على كامل استقلالها واستحقاقها.

الحدث الذي يمكن القول بأنه سرق الأضواء واستحوذ على الاهتمام الأكبر هو ما قام به الفنان هاني رمزي من مبادرة إنسانية تحسب له، حيث أهدى تكريمه لكل من أضير نفسياً ومعنوياً بسبب الإساءة لسيدنا محمد 'صلى الله عليه وسلم' بالفيلم الذي أنتج حديثاً واتهم فيه أقباط المهجر أو تورطوا بالفعل، برغم ان الإهداء المقدم من رمزي إهداءاً معنوياً إلا أنه جاء برداً وسلاماً على قلوب المصريين الثائرين فقد أعتبروه بمثابة تتويج للوحدة الوطنية بين طائفتين لشعب واحد وأثنى الآلاف من الغاضبين ثناءاً جميلاً على مبادرة الفنان المصري الأصيل.

وأعتقد أنه بهذه اللفتة الإنسانية الدبلوماسية استطاع هاني رمزي أن يزيل آثار الخصومة التي كانت بينه وبين الثوار في بداية اندلاع الثورة، إذ تردد وقتها أنه لم يكن مع المتظاهرين في ميدان التحرير وأضيف اسمه في القائمة السوداء للفنانين المعادين للتغيير، واكتملت الشبهة بفيلمه سامي أكسيد الكربون الذي وردت به مشاهد كوميدية تعرض فيها للثوار بالسخرية فبُني الموقف على هذه الخلفية واستمر سوء التفاهم لفترة، ثم سرعان ما عاد الود مرة أخرى وتأكد بوقفته النموذجية بجانب جمهوره وأبناء وطنه في حفل افتتاح مهرجان الإسكندرية.

ما يتبقى من المعنى العام لإقامة المهرجان السينمائي العريق الذي أسسه كمال الملاخ عام 79 وتعاقب على رئاسته نجوم وشخصيات لها وزنها وثقلها في الوسط الفني والأدبي هو استمرار دولة الإبداع والفكر والثقافة الرامية إلى تحرير العقل من الجمود والعقم والمحافظة على التوازن الطبيعي للإنسان كي يظل محتفظاً بملكاته الفطرية والربانية ومواهبه الأصيلة التي هي هبة من الله عز وجل صاحب الحق في التفتيش داخل النوايا والسرائر وما تضمره النفوس والقلوب وما يخفى عن الناس.