الخميس، 8 يناير 2015

قدرات غير عادية

 محمد رُضا


محمد رضا

العرض العالمي الأول لفيلم المخرج المصري داوود عبدالسيد هو من بين الأفلام المنتظرة والمثيرة للنقاش. كان منتظراً لأن المخرج، وسط الظروف الحالية، مقل. وكان منتظراً بسبب أنه أحد الأسماء الكبيرة في السينما المصرية اليوم منذ أن كتب أخرج فيلمه الروائي الأول «البحثعن السيد مرزوق» سنة 1991
كما فيلم داوود عبد السيد الأول «البحث عن السيد مرزوق» سنة 1991،  الذي بحث فيه عن تناقضات الشخصيات من خلال موظّـف على قدر من السذاجة (كما لعبه نور الشريف). وكحال  أفلامه بعد ذلك (منها «أرض الأحلام» و«أرض الخوف» و«مواطن ومخبر وحرامي» و«رسائل البحر») التي دارت حول موضوع البحث ومن يقوم به ومن يلتقي به خلال بحثه، ينشط هذا الفيلم الجديد في المهمّـة ذاتها. 
البحث في «قدرات غير عادية» (مع خالد أبوالنجا ونجلاء بدر مع إشتراك محمود الجندي وحسن كامي وكريم المصري وعبّاس أبو الحسن) منصب على فكرة تناول موضوع أولئك المتميّـزين بقدرات غير عادية مثل توقع أن يحدث شيء فيحدث، أو مثل النظر إلى الشيء البعيد فيقترب أو تحريك الأشياء في الهواء وسواه. ينطلق من فكرة قيام الباحث (أبو النجا) بطرق باب لا يستطيع إستيعاب ما ورائه، ومن ثم دخوله عالماً يتحوّل فيه إلى مجرد أداة تحت مجهر غامض.
حتى البداية فيه رنّـة من بعض الأعمال الماضية. في الدقيقة الأولى يُـطلب من يحيى (أبوالنجا) أن يواصل العمل على بحث كتبه حول الأشخاص الذين يتمتعون بتلك القدرات الفائقة غير الطبيعية ما يذكّـرك بمطلع «مواطن ومخبر وحرامي» (الذي مثّـله أيضاً أبو النجا) عندما يُـمنح بطله وقتاً غير محدد للغياب عن العمل والنزول إلى الشارع  ليستكشف أمر الناس وينقل معلومات عنهم. الطلب هنا هو نوع من منحه تذكرة ليذوب ويغيب. لينتقل من الحضور إلى الإختفاء.
كذلك هناك عنصر المراقبة من بعيد. المختلف هو أن يحيى، في الفيلم الجديد، لا يذوب لحد أن أحداً لم يعد يسأل عنه، ولو أن ذلك يكاد أن يقع. أول ما يفعله بعد أن أخبره مديره أن عليه أن يأخذ إجازة «وما تورنيش خلقتك لشهر» هو النزوح إلى بنسيون يقع على مقربة من مدينة الإسكندرية حيث يستأجر غرفة فيه ليعيش (ونظرياً لكي يقرأ ويدرس).
هناك يكتشف أن صاحبة البانسيون (الجميلة والجيدة نجلاء بدر) وإبنتها فريدة (مريم تامر) تملكان قدرات غير عادية. الأولى، مثلاً، تستطيع أن تتنبأ بقدومه إلى الإسكندرية وملاقاته فيها حتى من دون موعد متّـفق عليه. الثانية تستطيع أن تحرّك الأشياء من مكانها. هذا ما يدخل صميم بحثه، لكن بحثه ليس علمياً. يترك يحيى نفسه ينساب إلى عالمهما من دون كوابح. يصبح جزءاً من حالة عامّـة ويكتشف أنه تحت المرصاد وأن هناك رجل أمن على قدر كبير من التأثير في مجريات الأمور أسمه عمر (عباس أبوالحسن) كان يموّل أبحاثه ويدير الجهاز الذي يريد التعرّف على من يمتلكون مثل تلك الطاقات العجيبة. وهذا يعترف لاحقاً أنه وكّـل إلى الطفلة فريدة مسألة مساعدته في التحقيق مع متّـهمين مختلفين في مسائل أمنية.
لكن يحيى الذي يبدأ بالتعرّف على تلك الطاقات في الآخرين، وبقرار غير حكيم من الكاتب-المخرج، يبدأ بالتساؤل عما إذا كان هو من يملك هذه القدرات وهو من سيّـر الأم وإبنتها منذ البداية. قرار غير حكيم لأن الفيلم يبدو، وبطله، تائهاً منذ البداية وما يفعله المخرج هو أن يزيده توهاناً عبر لا قدرة بطله على الوثوق من شيء، خصوصاً وأنه يعود فيؤمن بأن الأم وإبنتها مخلوقتان موهوبتان على النحو المذكور وليس هو. ثم يزيد هذا التوهان عندما يبدأ بالحديث عن إحتمال أن تكون الأم وليس الإبنة هي الأنثى ذات القدرات غير العادية، وهذا من بعد أن قاد الفيلم نفسه، وجمهوره، في فحوى مفاده أن الإبنة هي صاحبة هذه القدرات.
يلامس الفيلم هنا خطوط أفلام أخرى. يوحي بـ «غير قابل للكسر» و«الحاسة السادسة« للأميركيم. نايت شيامالان و«كاري» (في نسختيه السابقة سنة 1976 و2013) ولما تقوم عليه سلسلة«رجال إكس». ليس أننا نرى الطفلة تنظر إلى خالد أبوالنجا وتقول له «أرى أمواتاً»، لكن على نطاق الطرح المستمر لأسئلة موحية بالغرائبيات. لكن شيامالان أجاب على تلك الأسئلة في حين أن عبدالسيد يبقيها نصف مجابة ويترك أيضاً الثغور بينها. لا أقول أن المخرج نقل من هذه الأفلام(وهو أبعد بكثير من أن يصنع فيلماً لاهياً مثل أفلام «رجال إكس») بل هناك قدر من الأحداث التي تجعل المرء يتذكّـر منزعجاً.
النقطة السلبية الأخرى هي في أداء خالد أبوالنجا. ليس خطأه أن الدور صعب بل خطأه والمخرج في أنه يحافظ على مستوى واحد من التعبير حتى مع إختلاف الظروف وردّات الفعل ما يجعل الشخصية ذاتها أقل أهمية ولو أن ذلك قد يكون مقصوداً عبر تذويب البطل في حلقة مفرغة. من ناحية موازية، يحرص الفيلم على المحافظة على منوال معيّـن من السرد وإيقاع لا يمكن الهروب من استخدام كلمة «رتيب» في وصفه.
الكثير من الشجن وأكثر منها من الأفكار التي أحياناً ما تصعد إلى أعلى ما يمكن للفيلم بلوغه من إنجاز (الفصل الذي تدور فيه مشاهد نزول يحيى إلى الحفلات الدينية وحالة الغربة التي يعيشها روحياً ومدنياً). تصوّر فقط لو ترك هذه المشاهد من دون تعليق. لو ترك للكاميرا أن تعبّـر. وبل لو كان الفيلم بكامله من دون تعليقات. ساعة من يحيى وساعة من المرأة التي أحب لحين (الأم)كما لو أن المخرج لم يختر مرجعية الشخصية المراد لها أن تقود. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق