«سينماتوغراف»  ـ هشام لاشين

منذ فيلمه الأول ( الصعاليك ) وحتى آخر أفلامه (رسائل البحر) وهناك شيئ مايشبه الإغواء في سينما (داود عبد السيد) .. فهو يجذبك الى عالمه الغريب المخلوط بكل المتناقضات منذ اللحظة الأولى .. ويظل يسحبك على وجهك هائماً بعد أن يزين لك بضاعته الفكرية المصورة التى تشبه (صندوق الدنيا) أنها ملونة بألوان (قوس قزح ) ومغلفة بورق السلوفان اللامع .. وعندما يتوقف شريط الصور المتحركة عن الدوران تشعر للحظات إنك قد خدعت او اغتويت (من الغواية) وعندما تفيق تكتشف أن كل شيئ قد انتهى وانك وقعت لا محالة فى شرك سينمائي محكم .. خلط صانعه الدجل بالواقع .. والسياسة بالخيال .. والميتافيزيقيا بالفلسفة .. وفى النهاية يمنحك تفاحة .. تشبه تماماً تلك التى قطفها أدم ومعه حواء .. فهى معادل لحرية الاختيار التى قد تنزل بك لسابع أرض ولكن طعمها يظل فى فمك !

رمز السلطة:

في فيلمه الثانى (البحث عن سيد مرزوق) نرى (سيد مرزوق) رمز السلطة التى ورثت كل شيئ .. النفوذ والمال وجهاز الأمن وها هى تتلاعب بمصير الرعايا فى استخفاف منقطع النظير.. أنه يستمتع بمشاعر الفقراء وهم يحصلون على بعض المنح البسيطة ، وهاهو يقتل مواطن غلبان ويلفق تهمة لأخر.. وتأمل رمز الأمن وهو لا ينشغل بأى شيئ آخر سوى حماية رمز السلطة حتى لو أدى ذلك الى ظلم آخرين أو العبث بمصائرهم .. ولنتأمل بالتحديد تلك اللحظة الفريدة التى يكتشف فيها يوسف البسيط أنه يمكن أن يفك (الكلابشات) من يده بسهولة ، فى الوقت الذى تكون هى سر عذابه لرحلة طويلة .. فالحرية ممكنة . بيدنا وحدنا ولا يجب ان ننتظر منحها ثم لنتأمل يوسف نفسه رمز لغالبية البسطاء المسالمين .. الذين يكتفون بالمشي بجوار الحائط .. وحينما يقرر التمرد فهو لايفعل شيئاً لأن المسدس الذي وجده بين أصابعه  .. فشنك !
وسيمفونية القهر تتوالي سواء كانت فى اقتحام الشرطة للعالم الملائكى (لسليمان) وحضانة ابنته أو فى هدير أقدامهم مع مشهد النهاية وهم يدقون الأرض وخلفهم الكلاب البوليسية !! وحينما يقرر يوسف الهرب منهم يسقط فى عربة القمامة .. وهو بذلك يفيقنا الى أن ثمن الحرية قد يكون أن نصبح كالنفايات التى تتعرض للحرق ولكن المهم أن نواجه مصائرنا فى النهاية بشجاعة !!
وفى فيلمه (مواطن ومخبر وحرامى) مثله مثل معظم أفلامه تتعدد مستويات الاغواء حيث ينتقد النظام ويهاجم المجتمع حتى يصل الى أخطر التابوهات وهى (الدين) ليتجول فيه بحرية وربما بنزق.

 داوود عبد السيد.. شيطان الشاشة المسحورة  "دبى السينمائي" ينفرد بعرض أحدث إبداعاته " قدرات غير عادية "

استخدام الدين:

وهو يركز على صورة واحدة فى كل أفلامه  تقريبا وهى استخدام الدين فى السخرية وفى الدجل والنصب وتجارة المخدارت وصولاً الى القتل .. تأمل مثلاً صورة المشايخ الثلاثة المصابين بالعمى (لاحظ العمى) في فيلمه (الكيت كات) وتأمل تحديداً صورة المقرئ القبيح التي تتحول طريقة تلاوته لشكل من أشكال السخرية والكوميديا !! وفى فيلم (البحث عن سيد مرزوق) يأخذ شكل الصدام الأمني بُعداً فلسفياً ومتيافيزيقيا حيث تصبح القوة الغاشمة والمسيطرة معادلا رمزياً غامضاً متجسدا فى ” سيد مرزوق ” الذى يظهر ويختفى دون سبب ويتحكم فى مصائر العالم بصورة تفوق قدرات البشر !! إنه معادل آخر لشخصية (حمدي غيث) فى (أرض الخوف) .. فظهوره محاطاً بذلك الطقس الروحانى والديكور الذي لا تخطئه العين ودلالته.. كذلك العبارات التى يستخدمها وحديثه عن الخير والشر ثم ارتكابه جرائم القتل بحجة المصلحة العليا للعالم .. كل ذلك يجعله أكثر من مجرد تاجر مخدارات يحكم عالم المافيا .. وهو اكثر من أب روحي يرتدى العباءة الإسلامية! بل أن هذا الفيلم تحديداً يتضمن أكثر من مستوى للتعامل خارج عالم المجرمين وتجار المخدرات والفاسدين ” فهناك العالم الأوسع والأرحب الذى تحكمه القوة بالخوف والقهر .. ويستخدم داوود أسماء الأنبياء ليمنحهم لشخوصه بالكامل فى هذا الفيلم فى حين تصبح رسالة موسى هى مفتاح الغموض والسر الذى يضل طريق ليتغير مصير الكون !.. وعلى مستوى آخر نرى كيف يتفاءل بطل (سارق الفرح) بفضلات (حمامة) تقف على نافذة ضريح أحد الأولياء الصالحين !! أما فيلم (مواطن و مخبر وحرامى) فهو يقدم بداخله حوارات مباشرة على لسان الحرامى (شريف المرجوشى) وهو شخص جاهل” يجسد دوره  شعبان عبد الرحيم “يتدفأ على نار الكتب التى يتحدث عنها بإعتبارها تحتوى أفكارا شريرة تدعو للحرام ! هذا المرجوش يفسر أفلام الأكشن بطريقة دينية مضحكة . وهو يناقش الاسلام ويفسره على هواه. وبنفس المنطق يحرق رواية المثقف (خالد ابو النجا) فى الفيلم .. أنه نموذج للغوغاء عندما يتصدرون لتفسير الدين .. ولكن (داوود) يصر مرة أخرى على مناقشة السلطة الأعلى باستخدام الدلالات بل والكلمات الواضحة عندما يقول المثقف (مفيش سلطة كاملة .. السلطة المطلقة هى المثل الاعلى .. السلطة دائماً ناقصة) بينما يتجه ببصره لأعلى .. وفى النهاية يقرر بوضوح (لازم الانسان يبقى هو سلطة نفسه) .
 داوود عبد السيد.. شيطان الشاشة المسحورة  "دبى السينمائي" ينفرد بعرض أحدث إبداعاته " قدرات غير عادية "

القهر السلطوي:

واذا كان هذا  هو موقف المخرج فى موضوع الدين والسلطة العليا الذى يمزجه بقدر كبير من الفلسفة التى يعشقها .. فان المستوى الاخر للسلطة (السياسة) يشغل  داودد  بوضوح فاذا كان الحرامى شريف المجروش هو ( روح السجن ) كما يصغه الراوى أو المعلق .. فإن المخبر (فتحى عبد الغفور) هو  رجل متوازن  هذا هو الشكل الخارجى للسلطة .. ولكن هذه الشخصية لاتلبث أن تكشر عن أنيابها فى أكثر من مشهد ربما أبرزها مشهد استجواب (حياة) الذى يتحول لوصلة تلفيق وتعذيب مرعبة ونراه يطرح الاسئلة والاجابات .. فهو الخصم والحكم بل أنه يفرض سيف الاتهام على المدعى نفسه مثلما يملى عليه كتابه العريضة بقلمه وخط يده .. ويصل الجبروت إلى ذروته عندما يقهر المواطن حتى لايتنازل عن اتهامه ليبرر استمراره فى العنف الذى يسبب له نشوى خاصة بينما هو مخمور .. فالمخبر هنا ليس الا رمزاً واضحاً من رموز السلطة الغاشمة . و ( فتحى عبد الغفور) . ومنذ المشهد الاول يرسم له السيناريو هذه الصورة.. فهو يناور ويقتحم الأشخاص الذين راقبهم من قبل .. ويعرف بدقة نقاط ضعفهم ثم يفرض نفسه على عالمهم بعد ذلك قبل أن يعيد تشكيلهم بوضعهم فى المواقف المختلفة للوصول الى ردود فعل معينة .. وهنا ما فعله تماماً مع (سليم سيف الدين) من اللحظة الاولى التى ذهب فيها اليه الآخير للابلاغ عن سرقة سيارته الى أن يجد نفسه وقد أصبح متهماً فى جناية (فقأ عين) الحرامى .. ووجه السلطة الغاشمة يمكنك أن تجد صداه فى أفلام ( داوود ) الأخرى ! مثلا فى مشهد قسم الشرطة داخل (سيد مرزوق) عندما يتعرض المواطنون للإهانة والملاحقة .. وفى (سارق الفرح) و(أرض الخوف) .. بل انه يصيغ حواراً ساخراً عن الشرطة التى فى خدمة الشعب. ويقدم وجهاً اخر لهذه السلطة فى الحوار الذى يدور بين (سليم) ورئيس المباحث (أحمد كمال) الذى يقول فيه الأخير للأول ألا تعرف ان الضحك هو اكبر إخلال بالآمن .. وكذلك السخرية . وهذا هو الجانب المباشر لفكر رجل المباحث الذى يمثل بدوره السلطة .. وتطول الفلسفة هذا الحوار بعد ذلك لتشارك فى تشكيل النسيج العام .. حيث يرفض هذا الرجل نفسه أن يخلط النسيج الاجتماعى بين المثقف والحرامى الصعلوك .. وان كان يراها فى اطارها الطبيعى اذا كانت بين مخبر وحرامى ! فالمخبر لابد أن يصادق المجرمين .. ليعرف خباياهم ولكن كيف يخالط المتعلم الجهلة والهامشين ؟! منطق غريب وتناقض لا يفسره تناقض المخرج نفسه عندما يسخر من فساد هذا الاختلاط فى فيلمه بين (مواطن ومخبر وحرامي ) فهو يعتبره زواجاً فاسداً فى مجتمع فاسد وهو ما أشار إليه فى مؤتمر صحفى اقيم بعد الفيلم .. ورغم ذلك فهو يقول بحسم ووضوح (علينا آلا نعيش فى حالة التعالى الطبقى ) وذلك فى سياق اجابته عن  سؤال حول أسباب اختياره ( لشعبان عبد الرحيم ) لبطولة فيلمه فأيهما نصدق .. تصريح داوود المنشور بعدم التعالى الطبقى أم تصريحه برفضه لهذة المصاهرة الفاسدة داخل الفيلم ؟! ومن المؤكد أن المخبر هو العمود الفقرى فى هذا الفيلم .. فهو الذى يربط الاحداث ويفرض صياغتها .. وهو الذى يساهم فى تطور العلاقة بين الطرفين الأخرين قبل ان ينضم لهما كشريك ثالث فى المسألة الاقتصادية بعد حصوله على ثروة غير معلومة المصدر تماماً مثل الحرامى وربما المثقف على نحو مختلف .. فهناك خلطة مقصودة فى الفيلم تحاول أن تعكس انقلاب الهرم حيث يختلط الشرفاء باللصوص ويرتدى الجميع أقنعة كثيرة .. فهذا الكرنفال لايختلف كثيراً عن الحفل التنكرى فى نفس الفيلم عندما يختلط الواقعى بالمزيف وتضيع الحقائق .

 داوود عبد السيد.. شيطان الشاشة المسحورة  "دبى السينمائي" ينفرد بعرض أحدث إبداعاته " قدرات غير عادية "

الجنس والمكان:

ونأتى (لتابو) الجنس الذي تعامل معه المخرج بشكل حاد فى هذا الفيلم على وجه الخصوص عندما أفرط فى تقديمه مثلما استخدام (العري) بذكاء وهو يقدم لقطة كاملة لبطلته من ظهرها بعد ان تخلع كل ملابسها فيما يشبة راقصات الاسترتيز وذلك فى إطار رهان متبادل بينها وبين البطل أثناء لعب (الكوتشينة)  ولكن المشكلة الحقيقية تكمن في نظرة داوود للمرأة فى معظم أفلامه .. فهو لا يراها سوى وعاء جنس فقط لإشباع نهم الرجل .. ولست أجد تفسيراً لهذه النظرة من يخرج يزعم تبنى الافكار التقدمية فى أعماله .. وفى (مواطن ومخبر) نموذجان لهذه المرأة .. الاولى ( حياة )التى تصبح معادلا للشهوة والانكسار والخداع .. والثانية (رولا) التى تعتبر اقرب للعاهرة تماما مثل بطلة (رسائل البحر)، وفي هذا الفيلم الأخير يدق عبد السيد ناقوس الخطر فيما يخص محاولة محو خصوصية الإنسان الفرد وانسحاقه تحت سلطة الجماعة التي تستغل سلطة المقدس على الخصوص لمحو الذاكرة الفردية وإخضاعها وتدجينها ضمن محمية القطيع.. فهي تنويعة أخري علي القهر والميتافيزيقا المختلطة به لدرجة أن بطله أيضا سوف يصبح إسمه يحي بكل الدلالات الدينية وتناقض ذلك التوجه الوجودي البحت للشخصية في رحلته الحياتية  ممثلا للطبقة المتوسطة التي ظلت آخر الصامدين في وجه الفساد والذوق الرديء حتى لو اضطرها ذلك للجوء للبحر كملجإ أخير ووحيد.
وفي هذا الفيلم كما في (أرض الاحلام) يصبح للمكان وجود اساسي محفور ضمن تفاصيل روايته السينمائية فهنا بعض بنايات الإسكندرية التي تدخل ضمن المآثر التاريخية مصحوبة بشاعرية ، وكأنه يخشى على ماتبقى من عبق الذاكرة والأصالة التي تُمثلها هذه البنايات الملأى بالزخارف والنقوش والتي تعود لعصور خلت أيام أن كان للفن قيمة وشأن، وقبل الهجوم الشرس للأثرياء الجدد.. بينما سنجد المعادل في (أرض الأحلام) في بنايات مصر الجديدة المذهلة قبل أن يهجم القبح تدريجيا وهو نفس الحي الذي عاش فيه داوود نفسه وكون من خلاله الكثير من شخصيات عالمه الروائي السينمائي الساحر.. وعلي الجانب الأخر تمثل شخصية “الحاج هاشم” الذي اشترى كل المنزل التاريخي الجميل في (رسائل البحر) شخصية الحرامي أو حتي المخبر اللذان يستوليان علي رواية المواطن الراقي الذي ينتمي لمجتمع الكوزموبوليتان .
بل أن نفس هذا المواطن يصبح معادلا ليحيى في (رسائل البحر) فكلاهما منسحق بينما يدافع عن التراث والذاكرة والقيم الجميلة أمام الهجوم الشرس للأثراء الجدد الأميين والمدعومين بسلطة “الخطاب المقدس”.

 داوود عبد السيد.. شيطان الشاشة المسحورة  "دبى السينمائي" ينفرد بعرض أحدث إبداعاته " قدرات غير عادية "

صانع الدهشة:

ان داوود عبد السيد المولود في 23 نوفمبر 1946 هو نفسه صاحب العديد من الأفلام التسجيلية، أهمها (وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم ـ 1976)، (العمل في الحقل ـ 1979)، (عن الناس والأنبياء والفنانين ـ 1980). وهي بالطبع أفلام حققت لعبد السيد فرصة للاحتكاك المباشر مع الناس، ومعرفة أوسع وأعمق بالمجتمع المصري بكافة طبقاته، إضافة إلى أنها أكسبته الإحساس بنبض الحياة المتدفق ..قبل أن يضيف لها أفلامه الروائية الثمانية التي كشفت عن خصوصية سينما المؤلف ..فهو بالقطع صانع هذا العالم المفهم بالدهشة والتناقض والغموض وهو يدير عالمه بمهارة المواطن المثقف ، وبوعى المخبر المدربة عينه على الالتقاط والفرز .. أنه مثل بطله ( فتحى عبد الغفور ) يحاول أن ( يبحث عن اجابة عن الاسئلة الغامضة ) ولكنه بالتأكيد ليس مثل ( شريف المرجوش ) الذى يسمع أم كلثوم ويعلق صور عبد الوهاب بينما يتدفأ على رماد الكتب .. أنه مزيج من كل هذه الشخصيات التى بثها على مدار تسعة أفلام روائية كاملة ..فهو كما يعترف يهتم كثيراً بشخصياته أكثر من اهتمامه بالقضية المطروحة كقضية، مقتنعاً تماماً بأن أية قضية إنما تبرز عندما تتألق الشخصية وتعبر عن أحلامها وطموحاتها بصدق. وهو بذلك لا يبحث إطلاقاً عن حكاية تقليدية، وإنما يبحث عن نماذج وحالات نمطية تعيشها شخصياته.
وهو نموذج لسينما تتمرد وتسبح فى الممنوع حتى وان استخدمت الرمز اسلوباً للتحايل والنقد العنيف .
ويواصل داوود عرض  أفكاره ورؤيته من خلال أحدث أفلامه “قدرات غير عادية” الذى  يشارك فى المسابقة الرسمية لمهرجان دبى السينمائى الدولى فى دورته الـ 11 التى تبدأ 10 ديسمبر 201