السبت، 27 نوفمبر 2010

هشام لاشين يكتب عن الفيلم اللبناني (شتي يادني)


شتي يا دنيي تيزيد موسمنا ويحلا..وتدفق مي و زرع جديد بحقلتنا يعلا......كانت الكلمات السابقة هي مطلع واحدة من روائع الإغنيات التي قدمتها الفنانة الكبيرة فيروز بصحبة الرحبانية والتي اعتمدت على الدبكة اللبنانية والإيقاع وأداء الكورال.. وهي أغنية تكشف عن تفاؤل وعن شجن وحنين للحب والاسرة وللزمن الذي يفل من بين أصابعنا.. ربما لهذه الاسباب كان إختيار المخرج بهيج حجيج لهذه الإغنية لتصبح عنوانا لفيلمه الروائي الثاني موفقاً إلي حد كبيروالفيلم يشارك في مسابقة الأفلام العربية بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي هذا العام.. فإنتظار المطر مرتبطا بإنتظار الامل وترقب الخير بعد سنوات عجاف يعادلها في الفيلم سنوات الحرب اللبنانية ومانتج عنها في نفوس اللبنانين من خلال "رامز" العائد إلي الحياة بعد غياب 20عاما كان مختفيا تماما خلالها حيث اختطف في احد الحروب اللبنانية وألقي به في السجن وتعرض للتعذيب وعندما يفرج عنه يكون قد بلغ الخمسين من عمره. هذا الرجل المريض والذي يبدو منفصلا عن الواقع بات مهووسا بجمع أكياس الورق الفارغة وهاهي عودته وهو علي هذه الحالة تهز عائلته هزة قوية ..سنوات المعتقل وآثار العنف الجسدي والمعنوي تأبى ان تتركه يعيش بسلام بينهم. إنه يظل أسير هواجسه وكوابيسه وقلقه وعجزه عن استعادة التوازن المطلوب مما ينعكس على عائلته التي بدلاً من ان تعيش سعادة عودة الأب والزوج باتت مهددة بالإنهيار.. الابنة (ديامون بو عبود) طار حلمها الكبير بالالتحاق بالمعهد الموسيقي الباريسي مع عودة والدها..أما. الابن (ايلي متري) فقد وجد نفسه عاجزاً عن التعامل مع أب غريب الأطوار لايعرفه وهو بدوره يعيش حالة من التخبط والضياع وسط السكاري في المرابع الليلية ...أما الأم «ماري» (جوليا قصار) فهي بدورها متابعة لأحوال الزوج العائد وهو ينهار نفسيا بجوارها.. إنها تحاول أن تساعده وتساعد نفسها لأستعادة أسرتها المفككة دون جدوي ..وفي هذه الظروف المأساوية يلتقي بزينب(كارمن لبس) التي تنتظر عودة زوجها الغائب منذ 20عاما حيث تنشأ بينهما صداقة عميقة.. وزينب هذه هي المعادل الاخر لشخصية (رامز) فقد إختطف زوجها هي الأخري وكانت تسأل عنه رامز وهل إلتقاه في السجن أم لا.. فهي تجد في رامز نوعاً من تطهّر أو أمل أخير بالمعرفة الحقيقية بمصير الزوج لكن رامز يحاول أن يتذكره دون جدوي بينما تطارده هلاوس تؤكد له عكس ذلك حتي يتأكد مع المشهد الأخير بالفيلم أنه كان بالفعل زميله بالسجن لسنوات طويلة.. أن زينب بالنسبة لرامز تبدو بدورها بمثابة أمل لحياة جديدة مثلما هو بالنسبة لها.. إنه يستعيد شيئاً من اتزّانه النفسي والمعنوي.. وفي مشهد متميز يطلب منها أن ترافقه في نزهة خارجية وفي قارب صغير بالبحر يتنزهان وفرحة طفولية تعتريهما.. لكن فجأة يصاب بأزمة ربو تجعلها تحتضنه طويلا ليتوحد كلاهما في حالة واحدة من المعاناة والوحدة والخوف والحاجة للأخر..لكن توحد الجميع في ذات الهم يدفع بالزوجةماريا لكي تبحث عن زينب وتستدعيها لأن الزوج الراقد في المستشفي يهلوس بإسمها.. وعلي باب الغرفة بالمستشفي نري الزوجة والصديقة والابن والإبنة بينما يعترف رامز لزينب بأنه كان يعرف زوجها حيث كان معتقلا معه وأنه كان يخبره بمدي حبه لزينب وبمدي قلقه عليها.. .
والفيلم تتصاعد احداثه علي إيقاع رسائل (نايفة نجار) الأربع التي نشرتها تباعاً في جريدة «السفير» اللبنانية في الثمانينات وتحديا في عام 1984 بإعتبارها«ضمير الفيلم» الوثائقي فنايفة نجار ليست الا واحدة من أمهات كثيرات انتظرن ابناءهن المخطوفين دون جدوى،فإنتظرت 9 أشهر قبل ان تضع حداً لانتظارها الطويل فكان انتحارها هو الحل الوحيد .. هذه المرأة هي العد التنازلي للفيلم والمخرج يريد بذلك أن يقدم لنا مزجا موحيا بين الواقع والمتخيل وبين التسجيلي والروائي بهدف منح عمله مصداقية أكبر ولذلك يبدأ فيلمه بهذه الرسائل وينتهي بها قبل أن يقدم مشهدا متخيلا للحظات السابقة للإنتحار حيث طلبت إستدعاء مصور الجريدة وطلبت منه أن يصورها صورا تبدو فيها جميلة.. ربما لتتركها مخلدة لأخر رسائلها التي ترثي بها إبنها الشاب المخطوف ذو الأربعة عشرة ربيعا .
وقد سبق وقدم المخرج ملف المفقودين في الحرب اللبنانية في فيلمه الوثائقي «مخطوفون» عام 1998 ولكنه يقدم فيلمه هذه المرة عن عودة هؤلاء المخطوفين وليس عن كواليس إختطافهم إن الفيلم كما يقول المخرج نفسه عن (المجتمع اللبناني الراهن لا عن قضية المخطوفين. إنه فيلم عن العودة. وهي عودة مستحيلة وذات دلالات). فإذا كان فيلمه الروائي الاول (زنار النار) عن الحرب اللبنانية،فقد اختاران يكون فيلمه الثاني عن بيروت اليوم من خلال قضية تعتبر من أبرز ملفات الحرب العالقة.. وهي قضية 17 ألف مفقود أو بالأحري عن عودة نموذج منهم وكيف يمكن أن يعيش مثل هؤلاء بعد فترة إختطاف وتعذيب طويلة.. فالفيلم الجديد معني بهذه المشاعر مثلما هو معني بمشاعر المحيطين بمثل هؤلاء.. كيف يواجهون الواقع .. وماذا واجهوا في الماضي من عذابات.. فإذا كانت زوجة رامز قد نجحت في التغلب علي أثار هذذا الماضي للم شمل الاسرة حيث صارت الاب والأم لإبنتيها إلا أن أمثال رامز وزينب سوف يظلان مشدودين إلي هذا الماضي الذي يطاردهما طول الوقت..حتي حين يفكرا في التخلص منه.. حيث يرسم سيناريو بهيج حجيج بداية علاقة يمكن أن تنبت بين رامز وزينب,, وفي لحظة فاصلة يكتشف كلاهما أنه مطارد بهذا الماضي ففي أعقاب لقاء يمهد لإمكانية تواصلهما تفاجيء زينب بالجارة تخبرها أن نشرات الأخبار قد أعلنت أنه سيتم الإفراج عن دفعة جديدة من المعتقلين.. لتفيق علي الأمل في عودة الزوج (خليل) من جديد.. الفيلم يبرع أيضا في إشارته غلي أن المحنة تشمل المسيحيين والمسلمين معا.. فهم في مركب واحد سواء علي مستوي الطرح المياشر بعائلة رامز المسيحية أو عائلة زينب المسلمة أو ببعض المشاهد السينمائية كمشهد القارب الواحد الذي اشرنا إليه وجمع زينب ورامز في عناق طويل في اعقاب أزمة الربو المعادلة بدورها للأزمة الاكبر للمجتمع وسط البحر المترامي.

في الفيلم أيضاً تحية الى المرأة (كما يقول حجيج نفسه)، سواء من خلال ضمير الفيلم (نايفة نجار) او من خلال الزوجة («زينب») التي لا تزال تعيش على ذكرى زوجها المخطوف أو الزوجة («ماري») التي ربّت اولادها وحدها ثم اختارت ان تواصل حياتها، ولكن ما ان ظهر زوجها المفقود حتى حاولت جاهدة إعادة الروابط الى العائلة المفككة.. وإن كان لم يفسر لنا سر ذلك الإنهيار السريع لنموذج (نايفة النجار) في الواقع أو إنهيار الإبنة داخل دراما الفيلم.. فهما النموذجان الأضعف في بناء الشخصية النسائية داخل النسيج وإن نجح إستخدامهما للتدليل علي الإنهيار الذي صاحب الإختطاف.. الإبن لإي الأولي والاب في الثانية.

الممثلين بدورهم كشفوا عن براعة مدهشة في الممثل اللبناني ..حسان مراد الذي جسد شخصية «رامز» المضطربة والمكسورة، و جوليا قصار في دور «ماري» المحاولة لإستعادة أسرتها المرتبكة عقب عودة زوجها المخطوف المفاجئة، الى كارمن لبس في دور «زينب» التي وجدت في «رامز» عبق زوجها المخطوف والأمل في السعادة من جديد، ثم (ديامون بو عبود) المحبطة من عدم الالتحاق بالمعهد الموسيقي بباريس، وكذلك ( ايلي متري) الذي يعاني الإضطراب والضياع بعد عودة والده.

الموسيقى جزء رئيسي من الشجن المهيمن علي أحداث الفيلم سواء تلك الكلاسيكية الحزينة التي تعزفها الفتاة الشابة لباخ وغابريال فوري وأخرين، أوموسيقى الفيلم ذاته بإنسيابيتها المناسبة للأحداث وأجواءه التأملية.. عناصر الفيلم المختلفة من تصوير ومونتاج وصوت وغيرها تكشف عن كاتب سيناريو ومخرج متمكن يعرف كيف يصيغ قضيته الدرامية وكيف يدير أدواته وممثليه.. والأهم إصراره علي إعتبار السينما رسالة يجب أن تفتش في الواقع وتبحث في المشاعر والإحباطات لتدفع بالبحث عن حلول لمشاكل ظلت لسنوات طويلة معلقة .. لن يكون أخرها بالطبع مشاكل المخطوفين والمفقودين في حرب عبثية طالت الأخضر واليابس في وطن كبيرلازال يجتر هذه الألام.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق