الأربعاء، 8 ديسمبر 2010

هشام لاشين يكتب عن الفيلم التركي (كوزموس) )cosmos






في إطار إحتفاء مهرجان القاهرة السينمائي بالسينما التركية بتقديمه أضواء علي السينما التركية الجديدة وعرضه مجموعة من هذه الافلام يأتي فيلم (كوزموس) كتحفة غير مسبوقة ليكشف أن السينما التركية قادمة بقوة بعد أن غزا الأتراك عالم الدراما التلفزيونية.. وتعني كلمة (كوزموس) باللغة الإغريقية (المجرة) التي تحوي جميع الكواكب.. فهي بمثابة (درب التبانة) التي تدور في فلكها باقي الكواكب والمجرات الإخري.. أنها تقريبا نفس صفات بطل هذا الفيلم .. فكل الشخصيات والإحداث تدور في فلك (بتال) أو كوزموس هذا الشخص الغريب الساحر والغامض معا والذي يشبه أبطال الاساطير .. أنه مثل نبي أو مسيح تنبثق المعجزات من بين يديه.

حين يدخل إلي الكادر مندفعا مع الإستهلال نلمح رجلا نحيلا يجري وسط الثلوج والجبال المحاطة بالاشجار الشاهقة الجرداء وكأنه يهرب من مطاردة أو قدر غامض يدفع به نحو المجهول.. نحن الأن علي أعتاب مدينة أسرة تبدو وكأنها خارج الزمن .. يسقط علي الارض وسط الثلوج والصقيع يكاد يفتت ضلوعه.. حين يقترب من الإنهيار يخلع حذاءه ليخرج منه بعض النقود ويلتفت ليدسها بين الصخور منتبها إلي صوت صراخ متتالي .. نكتشف أن مصدر الصوت هو الفتاة( نبتون) فتاة ذات وجه ملائكي مدهش وأن كان يخفي قدرا من الغريزية.. صراخ الفتاة يختلط بصراخ كوزموس علي نحو بدائي يستمر بعد ذلك عند تكرر لقاءهما طول الفيلم دون حوار لنكتشف واحدا من مفاتيح هذا الفيلم فيما بعد حيث تمتزج الرموز لتنسج علاقة ما بين الحيوانات والبشر بل ولغة خاصة جمعت البشر في القرون الأولي قبل أن يعرفوا لغة الكلام..ونكتشف أن جثة أخيها الطفل تطوف فوق الماء ليقفز كوزموس ويحتضن الجثة ويرجها بعنف وسط صراخ متكرر لتدب الحياة في الطفل.. هنا تظهر أولي معجزات هذا الرجل.. حيث تكون هذه الحكاية وحدها كفيلة بالتمهيد لأعتبار أهل المدينة الغريبة لكوزموس كأنه صاحب كرامات يلجأون له في لحظات اليأس الشديد.. وهو مايتكرر بالفعل عبر حكاية غير تقليدية مع أخرين مثل زوجة الضابط المشلولة أو مع العجوز الذي يعاني من السعال الشديد.. ولكن كوزموس الذي يقترب أحيانا من شخصية روبن هود حين يسرق من المحلات الطعام ويذهب به للفقراء والمحتاجين ليس مجرد صاحب كرامات أو لص يحمل قيمة محددة بداخله.. كما أنه ليس مجرد فيلسوف يطرح حكمه حول الحياة والموت بأسلوب يقترب من الوجودية ذاتها.. إنه في هندامه وسلوكه أقرب للمشردين أو الصعاليك الذين يحملون الحكمة في حوارهم اليومي..لكن عالمه الخاص يتزامن مع بدر مكتمل وسحاب يتحرك وحيوانات ساكنة تحرك عيونها في ترقب وغموض.. علي الجانب الأخر يبدأ المخرج التركي (رها أردم ) وبإعتباره كاتب السيناريو أيضا في رسم عالم فيلمه الخاص بشخصياته وطقسه المكاني والزماني فنحن أمام بلدة يلفها الحزن والكأبة والشعور بالبرد والوحدة.. هناك حرب غامضة لم يفصح عنها الفيلم لتأكيد الشعور بالأزمة وإنتظار أمل في الغالب لايأتي ابدا..أننا أمام عوالم عبثية تشبه عوالم ألبير كامي.. وأحيانا نستشعر الفلسفة الوجودية بين ثنايا الحوار والحالات الإنسانية .. حوار الحياة والموت ومابعد الموت يتكرر بين ثنايا الفيلم وعلي لسان معظم الشخصيات.. أن المدرسة التي شارفت علي سن اليأس وإنتحرت في نهاية الفيلم بعد وقوعها في الخطيئة مع كوزموس تعاني من كابوس له علاقة باليأس من الحياة وعدم الرغبة في الخلود الذي يبدو لها مؤلما..ولذلك تقرر عدم إنتظار الموت..انها نفس المرأة التي شفاها كوزموس من صداع مزمن كان ينتابها ورغم ذلك فهي مثل معظم أبطال الفيلم تعاني الوحدة والترقب .. نفس الأمر عند معظم رواد المقهي و غالبيتهم (بالمناسبة) من العجائز.. أنهم يلتفون حول كوزموس بإعتباره أملا.. ولكن إلتفافهم هذا لايخلو من فتور وإحباط يسكن وجوههم بل وضلوعهم فهم مستكينون طول الوقت يحتسون الشاي في صمت وإكتئاب ..ومن خلال سرد بصري تشكيلي فريد للغاية ينسج المخرج لوحاته التي يختلط فيها التجريد بالواقعية والفلسفة بالحكمة والدين بالدجل والعبث اللانهائي.. فكوزموس صاحب المعجزات هو نفسه الذي يصلي في الجامع ويتحدث عن الحياة والموت بحكمة الصوفيين ثم أنه غير قادر علي حماية نفسه من المجهول ومن التشرد..وإذا كان يسرق النقود والطعام إلا أنه لايأكل سوي السكر فهو زاهد تماما في الطعام معظم الوقت.. وهو غير شهواني لكنه يسقط في الرغبة مع المدرسة في لحظة تواصل غير مرتبة.. وهو زاهد وعاشق لنبتون في نفس الوقت.. إنها نفس سمات التناقض داخل الفلسفة الوجودية وأن غلفها المخرج بالعظة والتصوف.. أننا أيضا أمام بلدة تعتبر نفسها ورغم كل الإحباط والشيخوخة بمثابة بوابة الله التي تملك الدين والحكمة وهي بدرجة من الطيبة بالفعل التي تجعل اللصوص يمتنعون رغم زمن الحرب..ورغم ذلك يقدم لنا المخرج حكاية هؤلاء الاشقاء الأربعة الذين يحملون تابوت ابيهم ويتنقلون به من مكان لأخر في محاولة لإثبات تهمة قتله علي رابعهم غير الشقيق لإعتقادهم أنه إستولي علي أرضهم بالحيلة والمكر.. ليتأكد رغم طيبة هؤلاء الناس أن الشرور قد بدأت تتسرب إليهم كما قال كوزموس..إنها خلطة غريبة ومعقدة تماما مثل إسلوب الفيلم الذي يبدو كالقصة القصيرة ذات الإسلوب والحالة المزاجية المكثفة رغم شدة تعقيدها.. بل هي لحظة سينمائية شديدة الروعة في تشكيلها وفي الطقس الإبداعي المغلف وأن إمتلأت بالرموز.. هناك حالة ميتافيزيقية .. حيوانات وطيور وعجائز.. إناس مستسلمون ومدينة إسطورية يلفها الحزن والفلسفة المغلفة بالإكتئاب.. لص لانعرف هل هو صاحب معجزات يتزامن مع ظهوره إشارات ضوئية تشبه الذبذبات القادمة من الفضاء مع التركيز علي عيون لحيوانات مثيرة.. أم أنه رجل مجنون أو ساحر لايملك من أمره شيئا لنفسه.. هناك حيوانات تذبح ودماء تسيل وصراخ يجمع كوزموس ونبتون وكأنه العشق البدائي المتوحش.. والحقيقة أن المخرج الحاصل علي درجة الماجستير من الجامعة بباريس في الفنون التشكيلية قد رصع فيلمه بالفعل بعشرات اللوحات مستخدما الإضاءة والديكور والثلج والبخار والمباني والمقهي والبيوت بصورة مدهشة ..ويعد مشهد طلاء الاظافر بين كوزموس ونبتون واحدا من أبدع المشاهد التي ظهرت في تاريخ السينما علي الإطلاق بكل معطياته الفنية ودلالته التشكيلية الموحية بالدم والجنس.معا.حتي ذلك التقطيع بين البطل والحيوانات والذي يشير له في حواره مع المدرسة حين يقول لها (أن الحيوانات لاتخيف البشر وأنما تخافهم.. وأنها مثلهم ولكن لايعيبها الغرور الموجود بالشر مع أنهم سينتهون للعدم جميعا) .. يكشف بدوره عن وجهة نظره في ذلك المزج بين الإثنين من خلال شخصية كوزموس الأكثر رقيا وسموا.. فهو يريد بذلك أن يقول أن الحيوان قد يكون في أحيان كثيرة أرقي من الإنسان بغروره وعنجهيته..هناك أيضا مشهد اسراب البط.. والابقار وهي تذهب للذبح في تقطيع متوالي مع إنكسار زجاج نافذة وسير زوجة ضابط الشرطة علي عكاز تستند عليه ربما بنفس إسلوب سير البط في تلك اللحظة.
بإختصار نحن إزاء فيلم عن حالة ولايمكن تلقيه إلا في هذا السياق.. حالة وجدانية فلسفية تشكيلية لابد وأن تسري في أنحاء المتلقي بصرف النظر عن صعوبتها وتعقيدها.. (كوزموس) فيلم عن الامل والحلم بالخلود.. وهو فيلم أيضا عن اليأس والبرودة في عالم موحش تحاصره الحروب والدمار من كل مكان.. أنه فيلم البحث عن المطلق واللانهائي عبر صيغة بصرية مدهشة وشريط صوت يسبح في الفضاء العريض مستلهما روح العمل الميتافيزيقي وأداء عالمي لممثلين عرفوا كيف يعبرون عن الحزن والضياع والتشتت والضبابية.. وكاتب سيناريو ومخرج قادر علي صنع إسلوب خاص به لايقل تفردا عن كبار أمثال ستانلي كوبريك وألان باركر وغيرهم.. فنحن بصدد تحفة سينمائية يمكنها الإنضمام بسهولة إلي كلاسيكيات الفن السابع دون تحفظ .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق